تفسير سفر يونان من كتاب ارسلت الي الانبياء الجزء الثاني


الإصحاح الأول
( يونان في البحر الثائر )


دعوة يونان (1-2) :

1 وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: 2 قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي.

المدينة العظيمة : كان محيط نينوى 96 كيلو متر وأبعادها 16 × 32 كيلو متر ( وهذا معنى مسيرة 3 أيام يون 3:3) وارتفاع أسوارها 100 قدم وسمك أسوارها بحيث تسير عليه من 3 إلى 4 مركبات حربية. وعلى الأسوار 1500 برج ارتفاع كل برج 200 قدم.
صعد شرهم أمامي : في الترجمة السبعينية صعد صراخ شرهم أمامي. وهذا يشبه "صوت دم أخيك صارخ إلىَّ من الأرض" ( تك10:4 ) وصراخ سدوم وعمورة قد كثر ( تك 20:18 ). وكانت دعوة يونان للكرازة والخدمة في نينوى من نوع فريد. فهو النبي الوحيد الذي دعي لخدمة مدينة أممية لا ليتنبأ عنها بالدمار بل يدعوها للتوبة. ونينوى كانت عاصمة أشور ألد أعداء إسرائيل. وهرب يونان بسبب هذه الصعوبة. لكن الله المحب إستغل حتى هروبه هذا في تحقيق مقاصده الإلهية. فما حدث فى قصة الحوت كان سبباً فى توبة أهل نينوى وإيمان بحارة السفينة بالله. ونفس الشئ حدث مع بولس ومرقس ، فلقد إستغل الله خلافهما ليرسل مرقس ليبشر في مصر.


هروبه الي ترشيش (3) :

3 فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ ، فَنَزَلَ إِلَى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ ، فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنَزَلَ فِيهَا ، لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. 

لماذا هرب يونان من المهمة التي كلفه بها الله ؟
[1] هناك سبب مذكور في (يون 2:4) وهو أنه عرف أن الله في رحمته سيقبل توبتهم فيصير يونان في أعينهم ككاذب. 
[2] يونان كان يتمنى هلاك أشور لأنها ألد أعداء إسرائيل ، وليس الصفح عنهم ، لذلك خرج بعد أن وجه إنذاره لنينوى وصنع له مظلة أمام المدينة منتظراً خرابها.
[3] ربما خاف يونان من شر الأشوريين فهم دمويون وربما قتلوه لو أنذرهم.
[4] ذهابه لأشور عدو إسرائيل يعتبر خيانة لملك إسرائيل ، وربما إتهموه بالتجسس للعدو.
[5] ذهابه لشعب وثني ضد فكر ومزاج شعب إسرائيل الذين يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، وبذلك سيسقط من نظر شعبه ، وكهنة وأنبياء شعبه.
ترشيش : ربما تكون في جنوب أسبانيا أو شمال غرب أفريقيا ، وهي أبعد بلد معروفة وقتئذ. فهو يريد أن يهرب من الله لأبعد مكان ممكن ، وهذا جهل بالله.
وكلمة ترشيش تعني بحر. وكلمة يافا تعني جمال.
نزل.. نزل.. نزل : تتكرر كلمة نزل في هذه الآية مرتين ثم تأتي ثانية في آية (5). فهو نزل إلى يافا ثم إلى السفينة ثم نزل إلى جوف السفينة. وبهذا تكررت كلمة نزل 3 مرات ، وهكذا لأنه ترك الله وهرب منه نجده في نزول مستمر وبالخطية عموماً نكون في نزول مستمر. وهو نزل إلى يافا أولاً (هذه تشير لمن يترك الله وينجذب لجمال العالم فيافا تعني جمال) ثم نزل إلى السفينة ، والسفينة في البحر، وماء البحر مالح ، ومَنْ يشرب منه يعطش      ( وهذه تشير لمن ينجذب لجمال العالم ويبدأ يشبع شهواته من العالم) ثم نزل لقاع السفينة حيث نام نوماً عميقاً ، ولم يوقظه هياج البحر ( وهذه إشارة لمن عاش في الخطية ، ففقد حواسه الروحية ، أي أطفأ الروح القدس فيه ، ولم يعد يسمع صوت تبكيت الروح وإنذاراته ). مثل هذا الخاطئ ماذا يفعل معه الله ؟ لا حل سوى تجربة صعبة. وهذا ما حدث فلقد رموه في البحر ومنه إلى جوف الحوت. ودفع أجرتها : إتكاله الآن على موارده الذاتية إذ إنفصل عن الرب أما من يكلفه الرب بعمل ما يقوم الرب بتسديد كل إحتياجاته. والخادم الذي يخدم الله بأمانة تجده يتكلم بكلمات هي من الروح القدس يعطيها له. أما الخادم المنفصل عن الله بسبب خطاياه تجده يتكلم من فلسفاته البشرية.



يونان والنوء العظيم ( 4-7) :

4 فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ. 5 فَخَافَ الْمَلاَّحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلهِهِ ، وَطَرَحُوا الأَمْتِعَةَ الَّتِي فِي السَّفِينَةِ إِلَى الْبَحْرِ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُمْ. وَأَمَّا يُونَانُ فَكَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَى جَوْفِ السَّفِينَةِ وَإضْطَجَعَ وَنَامَ نَوْماً ثَقِيلاً. 6 فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ : مَا لَكَ نَائِماً ؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ. 7 وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : «هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعاً لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ». فَأَلْقَوا قُرَعاً ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. 

فأرسل الرب ريحاً شديدة : كان خطأ يونان أنه ظن أنه بهروبه سيهرب من الله، ولم يدري أن الله في كل مكان. هذا ما عبر عنه داود "أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب".. ( مز139: 7, 8 )  وبسبب هروبه من الله وجهله بالله ، جلب على نفسه هذه العواصف. كان يليق به أن يهرب إلى الله ، لا أن يهرب منه. هو هرب من الله ، فما عاد يسمع صوت الله الهادئ المنخفض الخفيف الذي سمعه إيليا (1مل 12:19 ) ( فهذا لا يسمعه إلا من كان قريباً من الله ). ولأن يونان إبتعد وهرب من الله حدثه الله بلغة أخرى هي لغة الضيقات المتوالية ( ريح شديدة - نوء عظيم - حوت..) ليكشف عما في داخله من ريح عصيان عنيف وإضطراب داخلي. هذا ما حدث أيضاً للإبن الضال ، فحين ترك أبوه جاءت عليه المجاعة. فإنه متى يكون الرب غير راضٍ ، لا يكون شيء في أمان. فحين صلب المسيح إضطرب نظام الكون وصارت هناك ظلمة. علينا إذاً أن نعرف سبب أي ضيقة تمر بنا فقد يكون وراءها خطية جعلتنا نبتعد عن الله فما عدنا نسمع صوت تبكيته المنخفض.
خاف الملاحون : هم خبراء بالبحر، ولكن سبب خوفهم أنهم شعروا أن وراء العاصفة شيء غير عادي ، فهي هبَّت فجأة وبدون مقدمات وكانت عنيفة جداً. وصرخوا كل واحد إلى إلهه : هم شعروا بأن هناك شيء غير عادي فلجأوا لآلهتهم بينما يونان نام نوماً ثقيلاً : كأنه لا يريد أن يرى أمواج غضب الله عليه ، هو نوم الهروب وليس نوم السلام ، هو يهرب من واقعه.
وتضيف السبعينية أن عمق نوم يونان هو الذي لفت أنظار الربان إليه.
وطرحوا الأمتعة : لم تكن أمتعتهم مهما كانت عزيزة عليهم ، أغلى من حياتهم ، فهم رموا ما كان غالياً عليهم ليشتروا حياتهم الجسدية ، فهل نقبل أن نلقي ملذاتنا العالمية لنشتري حياتنا الأبدية وهي الأهم.
هنا رئيس النوتية يوبخ يونان ، بل يطلب إليه أن يصلي. وهذا شيء مخجل أن يطلب هذا الوثني من نبي الله أن يصلي. فبسبب هروبه فقد مركزه كنبي مرسل ليوبخ ملك أشور العظيمة ، وجلس يتلقى التعليم من هذا الوثني
عسى أن يفتكر الإله فينا : كانوا كوثنيين يشعرون أن آلهتهم الكثيرة هي واسطة بينهم وبين الإله الأعظم الذي لا يعرفونه. ومازال ليومنا هذا كثير من الناس يبحثون مضطربين وسط عقائد كثيرة ولا يعرفون أين يوجد الله ولا كيف يجدونه. ولكن الله يتكلم محاولاً أن يصل صوته لكل واحد. فهو كلم يونان برؤيا ، ولما هرب منه كلمه بالطبيعة الثائرة. ثم ها هو يكلمه عن طريق بحار وثني. فياليتنا نسمع صوته ومن له أذنان للسمع فليسمع.
نلقي قرعة : الله يكلم كل واحد بحسب ما يفهمه. فالله كلم المجوس بالنجم مثلاً وهو لا يوافق على طريقتهم. وهنا الله لا يوافق على القرعة ولكنه كلمهم بها فهم لا يفهمون سواها. فوقعت على يونان : وربما كان في السفينة من هو أشر من يونان ولكن الله أرسل العاصفة قاصداً يونان ، فالله يؤدب أولاده "الذي يحبه الرب يؤدبه".

يونان والنوتية ( 8- 12) : 

8 فَقَالُوا لَهُ: أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا ؟ مَا هُوَ عَمَلُكَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ ؟ مَا هِيَ أَرْضُكَ ؟ وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ ؟ 9 فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا عِبْرَانِيٌّ ، وَأَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ. 10 فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفاً عَظِيماً ، وَقَالُوا لَهُ:  لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا ؟ فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ. 11 فَقَالُوا لَهُ : «مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا ؟» لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ إضْطِرَاباً . 12 فَقَالَ لَهُمْ: خُذُونِي وَإطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ.

كل هذه الأسئلة ليريحوا ضمائرهم. كانت أسئلتهم بطريقة لطيفة وأثبتوا أنهم حكماء. وكانت أسئلتهم توبيخاً لطيفاً ليونان. ففيما هم يسألونه كان يليق بيونان أن يراجع نفسه في كل تصرفاته ويعترف بلسانه بخطيته وعصيانه. وهم في حكمتهم لم يشاؤوا أن يظلموه ، لذلك ها هم يستفهون منه.
هنا إجاباته على أسئلتهم. وعن سؤالهم ما هو عملك قال "أنا خائف من الرب. والرب الذي أعبده هو خالق البحر والأرض والسماء. وليس كما تظنون أن هناك آلهة كثيرة. وربما أخبرهم أنه نبي.
فهم عرفوا أن إله البحر غاضب فخافوا خوفاً عظيماً فهم رأوا ماذا يستطيع هذا الإله أن يفعل. وكان سؤالهم "إذا كان إلهك هكذا قوياً وأنت نبياً له فلماذا فعلت هذا ؟ " .
وإذ عرفوا أنه نبي سألوه عن علاج لهذه المصيبة التي هم فيها ، فإضطراب البحر بهذه الصورة يشهد عن غضب الله.
ربما قال يونان هذا بعد أن صلي وأرشده الله. وهو قال هذا الحل بصراحة وشجاعة ، فهو لا يريد أن يهلك أحد بسببه. وقوله هذا يشير لتسليمه الكامل لحياته في يد الله.. فهو فهم أن الله يريد أن يؤدبه. وهنا يونان بإلقائه في البحر فيهدأ كان ممثلاً للسيد المسيح ، الذي كان لابد أن يُلقَي به على الصليب ويُسَلَّم للقبر لينعم المؤمنون به الذين كانوا في إضطراب كالبحر، ينعمون بالسلام ، هكذا نجا البحارة بإلقاء يونان في البحر، وهكذا نخلص بموت المسيح.

يونان في جوف الحوت (13-17) :

13 وَلكِنَّ الرِّجَالَ جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَاباً عَلَيْهِمْ. 14 فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ وَقَالُوا : آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَماً بَرِيئاً ، لأَنَّكَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْت. 15 ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ. 16 فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفاً عَظِيماً ، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُوراً. 17 وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتاً عَظِيماً لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال.

لم يرد هؤلاء البحارة الطيبون إلقاء يونان في البحر، بل حاولوا إنقاذه برجوعهم إلى البر فلم يستطيعوا. لاحظ تصرفاتهم الطيبة فهم لم يستعملوا خبرتهم أولاً بإلقاء الأمتعة ، لكنهم صلوا أولاً. وهم بعد وقوع القرعة على يونان لم يوبخوه بكلمة ولا جرحوا مشاعره مع أنه السبب في كل خسائرهم. وهم لم يطرحوه مباشرة بل حاولوا إنقاذه. ألم تكن تصرفات هؤلاء لتخجل يونان الذي رفض أن يذهب لأمثالهم الوثنيين في نينوى !! لقد أظهر الله له أنه لا يوجد في إسرائيل إيمان مثل هذا ولا رقة مشاعر مثل هذه. بينما شعب إسرائيل ولهم الناموس والأنبياء يتمادون في خطاياهم. وكان تصرفهم مثل بيلاطس الذي غسل يديه قائلاً : "أنا برئ من دم هذا البار".
لأنك يا رب فعلت كما شئت : أنت يا رب ألزمتنا أن نفعل هكذا. وما نحن سوى أدوات في يدك. فلتكن مشيئتك.
هم طرحوه بكل احترام وإكرام ( ثم أخذوا يونان ). لنلق عنا خطايانا فتهدأ حياتنا.
في التقليد اليهودي أن البحارة حينما عادوا للبر آمنوا بإله إسرائيل وإختتنوا وإنضموا لشعب الله. فخاف الرجال من الرب : هذا معناه أنهم آمنوا به. وذبحوا ذبيحة للرب : هذا يرمز لتقديم الذبيحة الآن بعد موت المسيح. فلقد صار من حقنا تقديم ذبيحة المسيح بعد موت المسيح وقيامته. نذروا نذوراً : غالبًا نذورهم كانت أن يؤمنوا بالله إله إسرائيل ويقدموا له ذبيحة لو نجوا من هذه العاصفة.
يخرج من الجافي حلاوة: الجافي هو هروب يونان من الله ... وأنظر كيف إستعمله الله في أن يجعل هؤلاء البحارة الوثنيون يؤمنون به ، بل إنتشار القصة ووصولها إلى نينوى ، إذ وجد البحارة يونان على الشاطئ ، جعل أهل نينوى يؤمنون.
أما الرب فأعد حوتاً عظيماً ليبتلع يونان : الأمور تسير بتدبير إلهي فها هو الحوت ينتظر يونان في الماء ليهبه مبيتاً آمناً لا موتاً. فالله لا يريد الانتقام من يونان بل أن يصلحه لكي يرسله من جديد. وهكذا كل تجربة يسمح بها الله لنا ، هو أن ينصلح حالنا ونكمل عملنا الذي خلقنا الله لأجله ونصلح لملكوت السموات. وكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالي هكذا كان المسيح في القبر ثلاث أيام وثلاث ليالي. والمسيح مات يوم الجمعة وقام فجر الأحد أي أنه قضى في القبر جزء من يوم الجمعة ويوم السبت كاملاً وجزء من يوم الأحد. ولكن هذه المدة تحسب ثلاث أيام وثلاث ليالي.. لماذا؟
[1] يعتبر اليهود أجزاء اليوم يوماً كاملاً في حسابهم.
[2] يُعبِّر اليهود عن اليوم بقولهم صباح ومساء (تك اصحاح 1).

الإصحاح الثاني( يونان في جوف الحوت )


إجتاز يونان لحظات صعبة جداً ، فقد كان وهو في جوف الحوت كمن دخل قبر. ولكن يبدو أن الله دفع يونان لكل هذه الضيقات حتى يصلى هذه الصلاة والتي يقدم فيها توبة فيتصالح مع الله. وهو لم يصلي وهو في جوف السفينة ، ولكنه ها هو يصلي في جوف الحوت. هذه فائدة من فوائد التجارب ، فحينما نبتعد عن الله يسمح لنا الله أن ندخل إلى عمق تجربة ( بطن سفينة هائجة في بحر هائج ) فإن ظل الحال كما هو عليه ( نوم عميق كما نام يونان ) يدخلنا الله إلى عمق تجربة أشد ( جوف الحوت ) حينئذ نصرخ مع داود "من الأعماق صرخت إليك يا رب" ونصرخ مع يونان بهذه الصلاة الرائعة التي يمتزج فيها الشكر والإيمان بل الشعور بتعزية إلهيه. بل هو شعر بالإستجابة ولذلك نجد الصلاة بصيغة الماضي. وربما يكون يونان حافظًاً لكلمات مزامير داود فصلاته شبيهة بصلاة داود وهذه فائدة أن نحفظ أقوال الكتاب المقدس ونستخدمها في ضيقاتنا.
في نهاية الإصحاح السابق نجد الله عاد ليونان بمراحمه وأنقذه من الموت سواء في البحر أو في جوف الحوت. وهنا نجد يونان يعود لله بالصلاة. بل أن هذه الصلاة جاءت معبرة عن عمل السيد المسيح الخلاصي في لحظات موته على الصليب ودفنه في القبر، لذا تتغنى بها الكنيسة في بدء الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة العظيمة ، بعد أن تنشد بلحن الحزن مراثي أرمياء. فإن كانت المراثي تعلن عن مرارة ما فعلته خطايانا بالسيد المسيح ، فتسبحة يونان تكشف عن نصرة الرب على الجحيم والموت وعمله الكفاري الذي يرفعنا للسماويات.

صلاته في الجوف (1) : 

1 فَصَلَّى يُونَانُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِ مِنْ جَوْفِ الْحُوتِ.

فصلى يونان .. من جوف الحوت . أخيراً جاء العلاج الذي استعمله الله بالشفاء ليونان.

بين الجحيم والسموات (2-7) :

2 وَقَالَ: دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ ، فَاسْتَجَابَنِي. صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ ، فَسَمِعْتَ صَوْتِي. 3 لأَنَّكَ طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ فِي قَلْبِ الْبِحَارِ ، فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. 4 فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. وَلكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. 5 قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إِلَى النَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ. الْتَفَّ عُشْبُ الْبَحْرِ بِرَأْسِي. 6 نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ الْجِبَالِ. مَغَالِيقُ الأَرْضِ عَلَيَّ إِلَى الأَبَدِ. ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي. 7 حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ ، فَجَاءَتْ إِلَيْكَ صَلاَتِي إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ.

جوف الهاوية : كلمة جوف المستخدمة هنا هي غير كلمة جوف الحوت. لذلك نفهم أنه إعتبر نفسه وهو في جوف الحوت ميت ، وأن هذا قبره ، فهو يقول جوف الهاوية أي القبر. وبهذا التشبيه نرفع أعيننا لا ليونان بل للمسيح الذي في بطن القبر. فيونان كان رمزاً للمسيح. ولاحظ صيغة الماضي وسمعت صوتي : كأن يونان شعر بإستجابة الله لصلاته ، ولكن كيف شعر بهذه الاستجابة ؟ من التعزيات التي شعر بها في قلبه. ولو طبقنا هذه الصلاة على المسيح فهو قد صرخ وصلي ليُقيمنا نحن من موت الخطية وأستجيب له  فالمسيح نزل إلى حياتنا ليرفعنا معه بل فيه.
أدرك يونان أن الله هو الذي طرحه وليس الملاحون. لأنك طرحتني وجازت فوقي جميع تياراتك ولججك : مفردها لجة ، وهى المياه الكثيرة. وهذا تعبير عن الآلام التي إجتازها المسيح في آلامه سواء في حياته أو على الصليب. ولججك تشير بالذات للموت ، فلا حياة وسط اللجج والتيارات لأي إنسان. وعلى الرغم من آلامه... يقول :
أحاط بي غمر : نهر وهو رمز للروح القدس المعزي (يو38:7، 39). أي أن يونان وسط هذه الضيقة الرهيبة ملأه الرب من تعزياته بالرغم من آلامه "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" كأن الله حَوَّل مياه البحر المالحة لنهر، مياهه حلوة. كما أن المسيح بصليبه وهبنا نهر روحه القدوس يروي نفوسنا ويهبها ثماراً.
كأنه واثق أنه سيخرج ويرى الهيكل ثانية. وكان اليهود يوجهون نظرهم للهيكل حينما يصلون. وكأن يونان في صلاته كان له نفس الشعور فهو وجه قلب للهيكل. فقلت قد طردت. لكنني أعود أنظر هيكل قدسك. هو صورة لعمل المسيح فقد صار كمطرود إذ صرخ قائلاً "إلهي إلهي لماذا تركتني". ولكنه حملنا فيه ودخل إلى الأقداس السماوية "أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات " ( أف 6:2).
طريقة الحوت في إبتلاع طعامه : هي أن يجري فاتحاً فمه فيدخل الماء حاملاً معه كل ما فيه من طعام (أسماك) وأعشاب بحرية. ثم يدفع الماء من فتحة في رأسه ويتبقى الطعام لذلك وجد يونان نفسه محاطاً بالأعشاب والماء ولكن قوله قد إكتنفتني مياه إلى النفس. تشير لآلامه النفسية بجانب آلامه الجسدية. وهذه نبوءه عن آلام المسيح في موته ونزوله إلى الجحيم فصار كمن اكتنفته المياه إلى النفس. ولكن كما نجا يونان ولم يغرق في هذه المياه هكذا قام المسيح ولم ينتصر الموت عليه. بل هو حَرَّرَ من أسرتهم المياه وأغرقتهم.
أسافل الجبال : كان القدماء يعتقدون أن الأرض مؤسسة على عمق عظيم (مز2:24). وأنها مؤسسة على المياه. وهنا يتصور يونان كأنه نزل إلى أعماق عظيمة. وأنه لا أمل له ثانية في أن يخرج كأن مغاليق الأرض. (أي كل المغاليق التي في الأرض) قد أغلقت عليه. إذاً لا أمل في الخلاص. هنا يشبه يونان المكان الذي هو فيه بهاوية أو غرفة تحت جبال الأرض ومغلقة بكل المغاليق .الترابيس التي لا يمكن فتحها أو الوصول إليها. وهذا وصف للهاوية التي يذهب لها البشر بعد الموت ( قبل المسيح ). ولا يستطيع إنسان الخروج من هذا المكان. فكان البشر قبل المسيح بلا رجاء. حتى جاء المسيح وكَسَّرَ هذه المغاليق وأصعدنا من هذه الهاوية التي كان لا رجاء لنا في الخروج منها. وهذا معنى صلاة يونان. ثم أصعدت من الحفرة حياتي أيها الرب إلهي " لا تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادًا". (مز10:16) فالمسيح قام وأقامنا معه وأنقذنا من الهاوية.
حين أعيت فيَّ نفسي ذكرت الرب. فقد يونان كل رجاء في ذراع بشري يخلصه من جوف الحوت. وليس من يخلصه سوى الرب ، فلجأ للرب. وهذه الآية تشبه قول المسيح " نفسي حزينة جدًا حتى الموت" و "إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس".

يونان المُسبّح (8-9) :

8 اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ. 9 أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ الْحَمْدِ أَذْبَحُ لَكَ ، وَأُوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ.

ربما يقصد نفسه أنه في هربه بحثاً عن راحته وذاته ترك نعمته. وربما يقصد الوثنيين مثل شعب أشور الذين يعبدون أباطيل تاركين الله ويكون في هذا الكلام تبرير خفي لعدم ذهابه لنينوى. وفي هذه الآية نبوة عن اليهود الذي صدقوا كهنتهم وصلبوا المسيح. ومازالوا حتى الآن يراعون أباطيل كاذبة تاركين المسيح الحقيقي القادر أن يفيض عليهم من نعمته. وسيقبلوا ضد المسيح الباطل ليخسروا كل نعمة.
كل مؤمن مملوء من الروح القدس ، وكل تائب شاعر بغفران الله لا يستطيع إلا أن يعبر عن فرحه بالتسبيح بعد أن يملأه الروح فرحاً وتعزية.

يونان الحي (10) :

10 وَأَمَرَ الرَّبُّ الْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إِلَى الْبَرِّ. 
درس آخر ليونان في الرحمة. فها هو الحوت يلقيه دون أن يؤذيه. فكيف يرفض هو خلاص أهل نينوى. البحارة أعطوه درساً والحوت أعطاه درساً آخر. لكن هذه الآية نبوة عن قيامة المسيح. فما كان ممكنًا للقبر أن يظل مغلقًا عليه "لأنك لا تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً" (مز10:16) ويونان رمز للمسيح.


شاركه على جوجل بلس

عن telecom engineer

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك